من وجوه إعجاز القرآن 2

القرآن وأسرار الخليقة
أخبر القرآن الكريم في غير واحدة من آياته عما يتعلق بسنن الكون، ونواميس الطبيعة، والافلاك، وغيرها مما لا سبيل إلى العلم به في بدء الاسلام إلا من ناحية الوحي الالهي. وبعض هذه القوانين وإن علم بها اليونانيون في تلك العصور أو غيرهم ممن لهم سابق معرفة بالعلوم، إلا أن الجزيرة العربية كانت بعيدة عن العلم بذلك. وإن فريقا مما أخبر به القرآن لم يتضح إلا بعد توفر العلوم، وكثرة الاكتشافات. وهذه الانباء في القرآن كثيرة.

وقد أخذ القرآن بالحزم في إخباره عن هذه الامور، فصرح ببعضها حيث يحسن التصريح، وأشار إلى بعضها حيث تحمد الاشارة، لان بعض هذه الاشياء مما يستعصي على عقول أهل ذلك العصر، فكان من الرشد أن يشير اليها إشارة تتضح لاهل العصور المقبلة حين يتقدم العلم، وتكثر الاكتشافات.

ومن هذه الاسرار التي كشف عنها الوحي السماوي، وتنبه اليها المتأخرون ما في قوله تعالى: ﴿وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ1.

فقد دلت هذه الاية الكريمة على أن كل ما ينبت في الارض له وزن خاص، وقد ثبت أخيرا أن كل نوع من أنواع النبات مركب من أجزاء خاصة على وزن مخصوص، بحيث لو زيد في بعض أجزائه أو نقص لكان ذلك مركبا آخر. وان نسبة بعض الاجزاء إلى بعض من الدقة بحيث لا يمكن ضبطها تحقيقا بأدق الموازين المعروفة للبشر.

ومن الاسرار الغريبة التي أشار اليها الوحي الالهي حاجة إنتاج قسم من الاشجار والنبات إلى لقاح الرياح. فقال سبحانه:﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ2.

فإن المفسرين الاقدمين وإن حملوا اللقاح في الاية الكريمة على معنى الحمل، باعتبار أنه أحد معانيه، وفسروا الاية المباركة بحمل الرياح للسحاب، أو المطر الذي يحمله السحاب، ولكن التنبيه على هذا المعنى ليس فيه كبير اهتمام، ولا سيما بعد ملاحظة أن الرياح لا تحمل السحاب، وإنما تدفعه من مكان إلى مكان آخر.

والنظرة الصحيحة في معنى الاية بعد ملاحظة ما اكتشفه علماء النبات تفيدنا سرا دقيقا لم تدركه أفكار السابقين، وهو الاشارة إلى حاجة إنتاج الشجر والنبات إلى اللقاح. وأن اللقاح قد يكون سبب الرياح، وهذا كما في المشمش والصنوبر والرمان والبرتقال والقطن، ونباتات الحبوب وغيرها، فإذا نضجت حبوب الطلع انفتحت الاكياس، وانتثرت خارجها محمولة على أجنحة الرياح فتسقط على مياسم الازهار الاخرى عفوا.

وقد أشار سبحانه وتعالى إلى أن سنة الزواج لا تختص بالحيوان، بل تعم النبات بجميع أقسامه بقوله:﴿وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ3.﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ4.

ومن الاسرار التي كشف عنها القرآن هي حركة الارض. فقد قال عز من قائل:﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا5.

تأمل كيف تشير الاية إلى حركة الارض إشارة جميلة لم تتضح إلا بعد قرون، وكيف تستعير للارض لفظ المهد الذي يعمل للرضيع، يهتز بنعومة لينام فيه مستريحا هادئا؟ وكذلك الارض مهد للبشر وملائمة لهم من جهة حركتها الوضعية والانتقالية، وكما أن تحرك المهد لغاية تربية الطفل واستراحته، فكذلك الارض، فإن حركتها اليومية والسنوية لغاية تربية الانسان بل وجميع ما عليها من الحيوان والجماد والنبات. تشير الاية المباركة إلى حركة الارض إشارة جميلة، ولم تصرح بها لانها نزلت في زمان أجمعت عقول البشر فيه على سكونها، حتى أنه كان يعد من الضروريات التي لا تقبل التشكيك6.

ومن الاسرار التي كشف عنها القرآن قبل أربعة عشر قرنا: وجود قارة اخرى. فقد قال سبحانه وتعالى:﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ7.

وهذه الاية الكريمة قد شغلت أذهان المفسرين قرونا عديدة، وذهبوا في تفسيرها مذاهب شتى. فقال بعضهم: المراد مشرق الشمس ومشرق القمر ومغرباهما، وحمله بعضهم على مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما. ولكن الظاهر أن المراد بها الاشارة إلى وجود قارة اخرى تكون على السطح الاخر للارض يلازم شروق الشمس عليها غروبها عنا. وذلك بدليل قوله تعالى:﴿يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ8.

فإن الظاهر من هذه الاية أن البعد بين المشرقين هو أطول مسافة محسوسة فلا يمكن حملها على مشرقي الشمس والقمر ولا على مشرقي الصيف والشتاء، لان المسافة بين ذلك ليست أطول مسافة محسوسة فلا بد من أن يراد بها المسافة التي ما بين المشرق والمغرب. ومعنى ذلك أن يكون المغرب مشرقا لجزء آخر من الكرة الارضية ليصح هذا التعبير، فالاية تدل على وجود هذا الجزء الذي لم يكتشف إلا بعد مئات من السنين من نزول القرآن.

فالايات التي ذكرت المشرق والمغرب بلفظ المفرد يراد منها النوع كقوله تعالى:﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ9.

والايات التي ذكرت ذلك بلفظ التثنية يراد منها الاشارة إلى القارة الموجودة على السطح الاخر من الارض.

والايات التي ذكرت ذلك بلفط الجمع يراد منها المشارق والمغارب باعتبار أجزاء الكرة الارضية كما نشير اليه.

ومن الاسرار التي أشار اليها القرآن الكريم كروية الارض فقال تعالى:﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا10. ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ11. ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ12.

ففي هذه الايات الكريمة دلالة على تعدد مطالع الشمس ومغاربها، وفيها إشارة إلى كروية الارض، فإن طلوع الشمس على أي جزء من أجزاء الكرة الارضية يلازم غروبها عن جزء آخر، فيكون تعدد المشارق والمغارب واضحا لا تكلف فيه ولا تعسف. وقد حمل القرطبي وغيره المشارق والمغارب على مطالع الشمس ومغاربها باختلاف أيام السنة، لكنه تكلف لا ينبغي أن يصار اليه، لان الشمس لم تكن لها مطالع معينة ليقع الحلف بها، بل تختلف تلك باختلاف الاراضي. فلا بد من أن يراد بها المشارق والمغارب التي تتجدد شيئا فشيئا باعتبار كروية الارض وحركتها.

وفي أخبار أئمة الهدى من أهل البيت عليهم السلام وأدعيتهم وخطبهم ما يدل على كروية الارض.

ومن ذلك ما روي عن الامام الصادق عليه السلام قال:” صحبني رجل كان يمسي بالمغرب ويغلس بالفجر، وكنت أنا أصلي المغرب إذا غربت الشمس، وأصلي الفجر إذا استبان لي الفجر. فقال لي الرجل: ما يمنعك أن تصنع مثل ما أصنع ؟ فإن الشمس تطلع على قوم قبلنا وتغرب عنا، وهي طالعة على قوم آخرين بعد. فقلت: إنما علينا أن نصلي وإذا وجبت الشمس عنا وإذا طلع الفجر عندنا، وعلى اولئك أن يصلوا إذا غربت الشمس عنهم13.

يستدل الرجل على مراده باختلاف المشرق والمغرب الناشئ عن استدارة الارض، ويقره الامام عليه السلام على ذلك ولكن ينبهه على وظيفته الدينية.

ومثله قول الامام عليه السلام في خبر آخر: “إنما عليك مشرقك ومغربك“.

ومن ذلك ما ورد عن الامام زين العابدين عليه السلام في دعائه عند الصباح والمساء: “وجعل لكل واحد منهما حدا محدودا، وأمدا ممدودا، يولج كل واحد منهما في صاحبه، ويولج صاحبه فيه بتقدير منه للعباد14.

أراد صلوات الله عليه بهذا البيان البديع التعريف بما لم تدركه العقول في تلك العصور وهو كروية الارض، وحيث أن هذا المعنى كان بعيدا عن أفهام الناس لانصراف العقول عن إدراك ذلك، تلطف وهو الامام العالم بأساليب البيان بالاشارة إلى ذلك على وجه بليغ، فإنه عليه السلام لو كان بصدد بيان ما يشاهده عامة الناس من أن الليل ينقص تارة فتضاف من ساعاته إلى النهار، وينقص النهار تارة اخرى فتضاف من ساعاته إلى الليل، لاقتصر على الجملة الاولى: ” يولج كل واحد منهما في صاحبه ” ولما احتاج إلى ذكر الجملة الثانية: ” ويولج صاحبه فيه ” إذن فذكر الجملة الثانية إنما هو للدلالة على أن إيلاج كل من الليل والنهار في صاحبه يكون في حال إيلاج صاحبه فيه، لان ظاهر الكلام أن الجملة الثانية حالية، ففي هذا دلالة على كروية الارض، وان إيلاج الليل في النهار مثلا عندنا يلازم إيلاج النهار في الليل عند قوم آخرين. ولو لم تكن مهمة الامام عليه السلام الاشارة إلى هذه النكتة العظيمة لم تكن لهذه الجملة الاخيرة فائدة، ولكانت تكرارا معنويا للجملة الاولى.

ولقد اقتصرنا في بيان إعجاز القرآن على هذه النواحي، وفي ذلك كفاية ودلالة على أن القرآن وحي إلهي، وخارج عن طوق البشر.

وكفى بالقرآن دليلا على كونه وحيا إلهيا أنه المدرسة الوحيدة التي تخرج منها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الذي يفتخر بفهم كلماته كل عالم نحرير وينهل من بحار علمه كل محقق متبحر. وهذه خطبه في نهج البلاغة، فإنه حينما يوجه كلامه فيها إلى موضوع لا يدع فيه مقالا لقائل، حتى ليخال من لا معرفة له بسيرته أنه قد قضى عمره في تحقيق ذلك الموضوع والبحث عنه، فمما لا شك فيه أن هذه المعارف والعلوم متصلة بالوحي، ومقتبسة من أنواره، لان من يعرف تاريخ جزيرة العرب ولا سيما الحجاز لا يخطر بباله أن تكون هذه العلوم قد أخذت عن غير منبع الوحي. ولنعم ما قيل في وصف نهج البلاغة: ” أنه دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوقين”.

بل أعود فأقول: إن تصديق علي عليه السلام وهو على ما عليه من البراعة في البلاغة، والمعارف وسائر العلوم لاعجاز القرآن هو بنفسه دليل على أن القرآن وحي إلهي، فإن تصديقه بذلك لا يجوز أن يكون ناشئا عن الجهل والاغترار، كيف وهو رب الفصاحة والبلاغة، واليه تنتهي جميع العلوم الاسلامية وهو المثل الاعلى في المعارف، وقد اعترف بنبوغه وفضله المؤالف والمخالف.
وكذلك لا يجوز أن يكون تصديقه هذا تصديقا صوريا ناشئا عن طلب منفعة دنيوية من جاه أو مال، كيف وهو منار الزهد والتقوى، وقد أعرض عن الدنيا وزخارفها، ورفض زعامة المسلمين حين اشترط عليه أن يسير بسيرة الشيخين، وهو الذي لم يصانع معاوية بإبقائه على ولايته أياما قليلة، مع علمه بعاقبة الامر إذا عزله عن الولاية. وإذن فلا بد من أن يكون تصديقه بإعجاز القرآن تصديقا حقيقيا، مطابقا للواقع، ناشئا عن الايمان الصادق. وهذا هو الصحيح، والواقع المطلوب.

*البيان في تفسير القرآن، دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع، ص70-77.


1- الحجر:19.
2- الحجر:22.
3- الرعد:3.
4- يس:36.
5- طه:53.
6- واجترأ الحكيم “غاليله” بعد الالف الهجري فأثبت الحركتين ” الوضعية والانتقالية ” للارض فأهانوه، واضطهدوه حتى قارب الهلكة، ثم سجن طويلا مع جلالته، وحقوقه العلمية فصار حكماء الافرنج يكتمون كشفياتهم الانيقة المخالفة للخرافات العتيقة خوفا من الكنيسة الرومية. الهيئة والاسلام ص 63 طبعة بغداد.
7- الرحمان:17.
8- الزخرف:38.
9- البقرة:115.
10- الأعراف:137.
11- الصافات: 5.
12- المعارج:40.
13- الوسائل ج 1 ص 237 باب 116 ان أول وقت المغرب غروب الشمس.
14- الصحيفة السجادية الكاملة.

شارك هذه:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *