سلامة القرآن من التحريف 1

التحريف لغة هو التغيير والتبديل، ونقل الشي‏ء من موضعه وتحويله إلى غيره1.

وهو في الاصطلاح التصرّف في النص المنزل على النبي صلى الله عليه وعلى آله، وهذا التصرف قد يكون في اللفظ فيسمى تحريفاً لفظياً، وقد يكون في المعنى فيسمى تحريفاً معنوياً.

والتحريف اللفظي قد يكون بزيادة كلمة أو اية أو ايات أو، وقد يكون بنقصان أحدها، وقد يكون بالتبديل والتغيير فيها.

وأما التحريف المعنوي فهو حمل اللفظ على غير معناه المراد، وتفسيره بغير وجهه الصحيح.

والمقصود بالبحث هنا هو التحريف اللفظي.

وقد أنكر العلماء المحققون التحريف اللفظي بجميع أقسامه المذكورة، وأثبتوا أن القرآن الكريم الموجود بين أيدينا مصون عن هذا النوع من التحريف وكلماتهم في ذلك واضحة وبعضها مذكور في مقدمات التفاسير.

الواقع والمجرى التاريخي

إن الواقع التاريخي يشهد على أن القرآن الكريم بمكان عظيم من الأهمية لدى المسلمين بحيث أنهم كانوا على استعداد لإراقة الدم في سبيل المحافظة على عدم تغيير أو تبديل ولو بحرف واحد فيه. ومن تلكم الشواهد..

ما ورد أن عثمان بن عفان لما أراد أن يسقط حرف الواو من الآية
﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ  2.

حتى تكون مختصة بالأحبار والرهبان قال له أبيّ: لتلحقنها أو لأضعنّ سيفي على عاتقي، فألحقوه3.

وكذا حين أراد عمر بن الخطاب حذف الواو من قوله تعالى:
﴿وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ …﴾4.

بهدف تكريس المدح للمهاجرين دون الأنصار اعترض بعض الصحابة فتراجع.

كما أنه لم يستطع أيضاً أن يزيد في كتاب اللَّه ما ادعاه أنه آية الرجم، رغم إصراره على ذلك.

وغير ذلك من الشواهد، مما يدل على مدى عناية المسلمين وتوفّر الدواعي على صيانته وحراسته حتى من حذف “الواو”.

أدلة حفظ القرآن الكريم من التحريف

لقد ذكر العلماء أدلة كثيرة على عدم إمكانية وقوع التحريف في القرآن الكريم وأنه محفوظ إلى اخر الزمان ومن الأدلة التي تدل على ذلك:

الدليل الأول: دليل العقل

ويبتني على مقدمات ثلاث:

الأولى: أن العقل حاكم بضرورة النبوة ولزوم بعث الرسل.
الثانية: أن النبوة لا يمكن للناس أن يصدقوها ويصدقوا مدّعيها إلا مع إتيانه بالمعجز.
الثالثة: أن نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله هي النبوة الخاتمة فلا بد أن تكون خالدة ولازم ذلك خلود معجزتها.

فهل من العقل في شي‏ء أن ينظر الحكيم إلى الناس وقد أبطلوا النبوة وضيّعوا معجزتها وهي الرسالة الخاتمة، دونما تدخل لحفظها وتخليدها.

هذه المقدمات الثلاث توصلنا إلى ضرورة حفظ القرآن الكريم باعتباره المعجزة الخالدة لتبقى حجة على الناس تدلهم على نبوة النبي صلى الله عليه وعلى آله ليسلموا للَّه الواحد القهار.

الدليل الثاني: القرآن الكريم

وهناك نوعان من الايات تدل على عدم وقوع التحريف فيه:

النوع الأول: الايات التي تصرح بحفظ القرآن الكريم:

قال تعالى:
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ5.

فالاية دلّت بوضوح على أن القرآن محفوظ من دون أي تغيير أو تبديل أو زيادة أو نقيصة. ولقد اشتملت الاية على توكيدات عدة مثل إنّا، ونحن، والجملة الإسمية واللام لحافظون.

فالمراد بالذكر القرآن، وبالحفظ حفظه عن التلاعب والتغيير.

كما يمكن الإستدلال على ذلك بما ذكره القرآن من أوصاف لنفسه، بأنه نور وعزيز وحكيم. فالعزيز هو الذي لا يمكن التأثير فيه، والنور هو الذي لا ظلمة فيه والحكيم الذي لا بطلان فيه. فلو كان للتحريف مجال في كتاب اللَّه تعالى لم يكن القرآن عزيزاً لأنه أمكن التأثير فيه، ولم يكن حكيماً إذ وقع البطلان فيه، وما كان نوراً لحصول الظلمة فيه.

وقد قال تعالى:
﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾6.

النوع الثاني: آيات التحدي

فقد تحدى اللَّه سبحانه البشرية على أن يأتوا بمثل القرآن:
﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا7.

ثم تحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله:
﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ 8.

وأخيراً تحداهم أن يأتوا بسورة مثله:
﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ﴾ 9 .

ولو أمكن الإتيان بمثله لكان ذلك أسهل سبيل للمشركين إلى تحدي القرآن، ومقارعة الإسلام من خوض الحروب وإهراق الدماء ومع ذلك فقد ذهبت محاولاتهم أدراج الرياح، ولم يلبثوا أن اعترفوا بعجزهم عن مجاراته. وبما أن اللَّه تعالى تحدّى البشر في كل الأجيال على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فلا بد من وجوده كما أنزله اللَّه سبحانه بشكل دائم وعلى مدى تعاقب الأجيال اللاحقة جميعها لكي يتحقق التحدي الإلهي بحقّهم.

والقول بتحريف القرآن يتنافى مع استمرارية التحدي والإعجاز، إذ لا يعود للتحدي أي معنى معقول على فرض تحريف القرآن، وهذا يتعارض مع حكمة المولى سبحانه وتعالى.

فلا بد من القول بعدم وقوع التحريف بمقتضى الحكمة الإلهية.

الدليل الثالث: الروايات

ويمكن الحديث في هذا المجال عن طائفتين من الروايات.

الأولى: وهي العمدة لأنها متواترة بين الفريقين، وهي المعروفة بروايات الثقلين حيث أمر النبي بالتمسك بالقرآن والعترة ولا يعقل أن يأمر النبي بالتمسك بشي‏ء محرّف، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله:
إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً” 10.

فالأمر بالتمسك بالكتاب وعدم امكان الوقوع بالضلالة لمن تمسك به وإلى الأبد، كل ذلك يؤكد أن هذا القرآن محفوظ ولا يمكن أن يقع فيه التحريف إلى الأبد.

الثانية: وهي الروايات الامرة بعرض حديث المعصومين عليه السلام على القرآن الكريم فإن وافق أخذنا به وإلا فلا.

عن رسول اللَّه صلى الله عليه وعلى آله:
إن على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نوراً، فما وافق كتاب اللَّه فخذوه، وما خالف كتاب اللَّه فدعوه11.

* دروس قرآنية. سلسلة المعارف الاسلامية، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية. ط: 6، آب 2009م- 143ه. ص: 15-18.

1- انظر المفردات. الراغب الأصفهاني، ص114.
2- التوبة: 34.
3- الدر المنثور، ج3، ص32.
4- التوبة: 100.
5- الحجر: 9.
6- فصلت: 42 41.
7- الإسراء: 88.
8- هود: 13.
9- يونس: 38.
10- المسترشد للطبري، ص559.
11- الكافي، ج1، ص69.

شارك هذه:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *