دور أهل البيت في التفسير

كان الدور الذي قام به ائمة اهل البيت عليهم السلام في تفسير القرآن الكريم، هو دور تربية وتعليم، وارشاد الى معالم التفسير، وانه كيف ينبغي ان يفهم معاني كلامه تعالى، وكيف الوقوف على دقائق ورموز هذا الوحي الالهي الخالد فقد كانت تفاسيرهم للقرآن، الماثورة عنهم عليهم السلام تفاسير نموذجية، كانوا قد عرضوها على الامة وعلى العلماء، لكي يتعرفوا الى اساليب التفسير، تلك الاساليب المعتمدة على اصول متينة وقواعد رصينة وان في الجم الغفير من التفسير الوارد عنهم عليهم السلام ما ينبؤك عن حرصهم الشديد على تعليم هذه الامة كيف يفسرون القرآن الكريم وايقافهم على نكت وظرف من هذا الكلام البارع نعم كانوا عليهم السلام ورثة القرآن العظيم، وحملته الى الناس، في امانة صادقة واداء وايفاء كريم.

وسوف نذكر نماذج من تفاسير ماثورة عن ائمة اهل البيت عليهم السلام هي شواهد على كونها مناهج تعليمية لكيفية التفسير وطريقة استنباط معانيه الحكيمة.

الخلط في التفاسير الماثورة: هناك في التفسير الماثور عن ائمة اهل البيت عليهم السلام بعض الخلط بين تفسير الظاهر وتفسير الباطن، كما حصل خلط بين بعض التطبيقات والتفسير، حيث كان المنصوص عليه مصداقا او من ابرز مصاديق الاية، فحسبهاالبعض تفاسير فكان من الضروري التمييز بين الامرين، وفصل احدهما عن الاخر، ليعرف وجه الصواب.

من ذلك ما ورد في تفسير قوله تعالى:﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونبانهم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد وردت هذه الاية في سورة النحل:﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ1.

وفي سورة الانبياء ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ2.

وظاهر الايتين يقضي بكون الخطاب موجها الى المشركين، الذين استغربوا نزول الوحي على بشر او على رجل منهم حيث قالوا:﴿مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ3 وقال تعالى: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ4.

فرفعاً لاستغرابهم افسح لهم المجال كي يسألوا بذلك اهل الكتاب ممن يلونهم وكانوا يعتمدونهم ومن ثم جاءت في الاية الاولى: ﴿إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ اي لاتعلمون الكتاب ولا تاريخ الانبياء والامم السالفة فعليكم بمراجعة من يعلم ذلك من اهل الكتاب.

كما جا تعقيب الاية الثانية بقوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ5 حيث استغرابهم ان يكون النبي انسانا ياكل الطعام ويمشي في الاسواق.

هذا هو ظاهر معنى الايتين: تفسير “اهل الذكر” بـ”اهل الكتاب”.

لكن ورد في تاويلهما، ما يقضي بالعموم، بان تشمل الاية كل ذوي العلم من اهل الثقافة والمعرفة وعلى راسهم ائمة اهل البيت عليهم السلام.

وذلك بالقاء الخصوصيات المكتنفة بالكلام، والاخذ بعموم اللفظ وعموم الملاك (اي عموم مناط الحكم) وهو ما يقتضيه العقل من رجوع الجاهل الى العالم اطلاقا، وفي جميع مجالات العلم والمعرفة، بما يعم جميع الثقافات.

فهذا من التاويل الذي هو مفاد باطن الاية، وليس من التفسير الذي هو مفاد ظاهرها.

هذا المولى محسن الفيض الكاشاني، حسب من هذه الروايات الواردة بتفسير الاية باهل البيت، تفسيرا حقيقيا حسب ظاهر اللفظ قال: في الكافي والقمي و العياشي عنهم عليهم السلام في اخبار كثيرة:رسول اللّه “الذكر” واهل بيته المسؤلون وهم “اهل الذكر” واضاف: ان المستفاد من هذه الاخبار ان المخاطبين بالسؤال هم المؤمنون دون المشركين، وان المسؤول عنه هو كل ما اشكل عليهم دون كون الرسل رجالا قال: وهذا انما يستقيم اذا لم يكن “وما ارسلنا” ردا للمشركين او كان “فاسالوا” كلاما مستانفا او كانت الاية مما غير نظمه ولا سيما اذا علق قوله “بالبينات والزبر” بقوله “ارسلنا” فان هذا الكلام، بينهما واما امرالمشركين بسؤال اهل البيت عن كون الرسل رجالا لا ملائكة، مع عدم ايمانهم باللّه ورسوله، فمما لا وجه له6.

انظر الى هذا التكلف الذي وقع فيه لتوجيه ما حسبه تفسيرا للاية فلو انه اخذه تاويلا لها مستخلصا عموم المراد من ظاهر اللفظ، وذلك لعموم مناط الحكم في المراجعة والسؤال لكان قد استراح بنفسه.

نعم، وردت الاية بشان المشركين، وهم جهال، ليسالوا اهل الكتاب، لانهم علماء وهذا الدستور العقلاني عام في ملاكه ومناطه، فليكن عاما في خطابه وشموله هكذا يستفاد العموم من اللفظ ويستخلص الشمول من الملاك ويسمى ذلك تاويلا اي مآل الكلام في نهاية المراد.

وهكذا قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِين7 فقد فسرها قوم حسبما ورد من روايات في تاويلها، فحسبوها مفسرات قال علي بن ابراهيم ـ بصدد تفسير الاية ـ: ارايتم ان اصبح امامكم غائبا فمن ياتيكم بامام مثله واكتفى بذلك واستشهد بحديث الرضا عليه السلام سئل عن هذه الاية، فقال: ماؤكم: ابوابكم، اي الائمة عليهم السلام والائمة ابواب اللّه بينه وبين خلقه،﴿فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِين، يعني بعلم الامام 8.

و”كناية “الماء المعين” عن العلم الصافي عن اكدار الشبهات، امر معروف قال تعالى:﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا9 وهكذا جاء في تفسير الصافي للمولى محسن الفيض10.

غير ان ذلك تاويل للاية وليس تفسيرا لها، حيث اخذ “الماء” في مفهومه الاعم من الحقيقي والكنائي، اي فيما يورث الحياة ويوجب تداومها وبقاءها، ان ماديا او معنويا، ليشمل الماء الزلال والعلم الصافي جميعا وبهذا المعنى العام يشمل كلا الامرين فاستخلاص مثل هذا العموم من لفظ الاية، يعتبر تاويلا لها.

وفي رواية الصدوق ـ في الاكمال ـ تصريح بذلك حيث سئل الامام ابو جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام عن تاويل هذه الاية بالذات، فقال: اذا فقدتم امامكم فلم تروه فماذا تصنعون ليمتاز التاويل عن التفسير.

وقوله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ11.

فالاية ـ حسب ظاهرها ـ وردت بشان قوم موسى واستضعاف فرعون لهم، فاراد اللّه ان يرفع بهم ويستذل فرعون وقومه.

لكن الاية في مفادها العام وعد بنصر المستضعفين في الارض و رفعهم على المستكبرين، في اي عصر و في اي دور سنة اللّه التي جرت في الخلق لكن على شرائط يجب توفرها كما توفرت حينذاك على عهد موسى وفرعون فان عادت الشرائط وتهيات الظروف، فان السنة تجري كما جرت اول الامر.

وبذلك جاء تاويل الاية بشان مهدي هذه الامة، واستخلاص المستضعفين في الارض على يده من نير المستكبرين.

قال الامام امير المؤمنين عليه السلام: “لتعطفن الدنيا علينا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها ثم تلا هذه الاية12.

وفي كتاب الغيبة قال اميرالمؤمنين عليه السلام: “هم آل محمد ـ صلوات اللّه عليه ـ يبعث اللّه مهديهم بعد جهدهم، فيعزهم ويذل اعدائهم “والروايات بهذا المعنى كثيرة جدا13.

فقد جاء ذكر موسى وقومه وفرعون و قومه، والمقصود ـ في باطن الاية ـ كل مستضعف في الارض ومستكبر فيها.

قال الامام السجاد: والذي بعث محمدا بالحق بشيرا ونذيرا، ان الابرار منا اهل البيت وشيعتهم بمنزلة موسى وشيعته، وان عدونا واشياعهم بمنزلة فرعون واشياعه14.

وعبثا حاول بعضهم جعل ذلك تفسيرا مباشرا للاية، واخذ فرعون وهامان لفظاكنائيا بحتا عن مطلق العتاة في الارض15.

ونظير هذه الاية في شمولها العام، وتاويلها بشان المهدي المنتظرـ عجل اللّه تعالى فرجه الشريف ـ قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي16.

فان مصداقها الحقيقي المنطبق على بسيط الارض كله، انما يتحقق بظهور المهدي و اظلال الاسلام على كافة وجه الارض عند ذلك تكون العبادة للّه في الارض خالصة من الشرك، لا يشرك به احد من خلقه.

قال الامام الصادق عليه السلام: نزلت في القائم و اصحابه17، اي بشانهم في تاويل الاية.

وهكذا قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُون18.

قال الامام الباقر عليه السلام: هم اصحاب المهدي في آخر الزمان.

وقد فصل الكلام في ذلك، الطبرسي في مجمع البيان، فراجع19.

وقوله تعالى: ﴿فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا اـ الى قوله ـ مَّتَاعًا لَّكُمْ20.

قال الامام ابو جعفر الباقر عليه السلام: الى علمه الذي ياخذه عمن ياخذه21.

لا شك ان العلم غذاء الروح كما ان الطعام غذاء الجسد فكما يجب على الانسان ان يعرف ان الطعام الصالح والغذاء النافع الكافل لسلامة الجسد وصحة البدن، هو الذي ياتيه من جانب اللّه، وانه تعالى هوالذي هيأه له ترفيها لمعيشته كذلك يجب عليه ان يعلم ان العلم النافع والغذاء الصالح لتنمية روحه وتزكية نفسه هو الذي ياتيه من جانب اللّه، وعلى يد اوليائه المخلصين الذين هم ائمة الهدى ومصابيح الدجى، فلا يستطرق ابواب البعداء الاجانب عن مهابط وحي اللّه، ومجاري فيضه المستدام.

قال الحكيم الرباني الفيض الكاشاني: لان الطعام يشمل طعام البدن وطعام الروح جميعا كما ان الانسان يشمل البدن والروح فكما انه مامور بان ينظر الى غذائه الجسماني ليعلم انه نزل من عند اللّه فكذلك غذاؤه الروحاني الذي هو العلم، ليعلم انه نزل من عنده تعالى بان صب امطار الوحي الى ارض النبوة وشجرة الرسالة وينبوع الحكمة، فاخرج منها حبوب الحقائق وفواكه المعارف، ليغتذي بها ارواح القابلين للتربية فقوله عليه السلام: “علمه الذي ياخذه عمن ياخذه” اي ينبغي له ان ياخذ علمه من مهابط الوحي ومنابع الحكمة اهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم.

الذين اخذوا علومهم من مصدر الوحي الامين، خالصة صافية ضافية.

قال: وهذا تاويل الاية الذي هو باطن الاية، مرادا الى جنب ظاهرها حسبما عرفت22.

*التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب، الشيخ محمد هادي عرفة، من منشورات الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية،  ط1، ص468-476.


1- 34/16
2- 21/ 7.
3- الانعام:91.
4- يونس:2.
5- الأنبياء:8
6- راجع: تفسير الصافي، ج1، ص 925.
7- الملك:30.
8- تفسير القمي، ج2، ص 379.
9- الجن:16.
10- تفسير الصافي، ج2، ص 727.
11- القصص:5.
12- يقال: شمس الفرس شموسا وشماسا، اذا استعصى على راكبه والضروس: الناقة السيئة الخلق تعض حالبها.
13- راجع: تفسير الصافي، ج2، ص 253.
14- تفسير الصافي، ج2، ص 254.
15- راجع في ذلك: محاولة القمي في تفسيره، ج2، ص 133.
16- النور:55.
17- الغيبة للنعماني، ص 230 رقم 35.
18- الانبياء:105.
19- مجمع البيان، ج7، ص 66ـ 67.
20- عبس:24ـ 32.
21- رجال الكشي، ص 10 ـ 11 (ط نجف ).
22- تفسير الصافي، ج2، ص 789 بتصرف و تلخيص

شارك هذه:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *