التفسير وظهوره وتطوره

بدأ التفسير وبيان معاني ألفاظ القرآن وعباراته من عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وكان هو المعلم الأول للقرآن الكريم وتوضيح مقاصده وحل ما غمض من عباراته، قال تعالى ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ1.

وقال: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ2.

وفي عصر النبي وبأمر منه اشتغل جماعة من الصحابة بقراءة القرآن وحفظه وضبطه، وهم الذين يسمون بـ”القراء”. وبعد الصحابة استمر المسلمون في التفسير ولازال حتى الآن فيهم مفسرون.

علم التفسير وطبقات المفسرين
اشتغل جماعة من الصحابة بالتفسير بعد أن ارتحل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى، ومنهم أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله الأنصاري وأبو سعيد الخدري وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر وأنس وأبو هريرة وأبو موسى، وكان أشهرهم عبد الله بن عباس.

كان منهج هؤلاء في التفسير أنهم ينقلون ما يسمعوه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معاني الآيات بشكل أحاديث مسندة3 وبلغت هذه الأحاديث كلها إلى نيف واربعين ومائتي حديث أسانيد كثير منها ضعيفة ومتون بعضها منكرة لا يمكن الركون اليها.

وربما ذكر هؤلاء تفسير بعض الآيات على أنه تفسير منهم بدون اسناده إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فعد المفسرون من متأخري أهل السنة هذا القسم أيضا من جملة الأحاديث بحجة أن الصحابة أخذوا علم القرآن من النبي ويبعد أن يفسروا من عند أنفسهم.

ولكن لا دليل قاطع على كلامهم هذا، بالاضافة إلى أن كمية كبيرة من الأحاديث المذكورة واردة في أسباب نزول الآيات وقصصها التاريخية، كما أن فيها أحاديث غير مسندة منقولة عن بعض علماء اليهود الذين أسلموا ككعب الأحبار وغيره.

وكان ابن عباس في أكثر الأوقات يستشهد بأبيات شعرية في فهم معاني الآيات، كما نرى ذلك جليا في مسائل نافع بن الأزرق، فان ابن عباس عند الاجابة عليها استشهد بالشعر في اكثر من مائتي مورد من الآيات، وقد نقل السيوطي مائة وتسعين جوابا منها في كتابه الاتقان4.

ومن هنا لا يمكن اعتبار الأحاديث المنقولة عن الصحابة أحاديث نبوية كما لا يمكن القول بأنهم لم يفسروا مطلقا برأيهم.

ومفسرو الصحابة هم الطبقة الأولى من مفسري الصحابة.

الطبقة الثانية هم التابعون، وهم تلامذة مفسري الصحابة، وهم مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وضحاك. ومن هذه الطبقة ايضا الحسن البصري وعطاء بن ابي رباح وعطاء بن أبي مسلم وابي العالية ومحمد بن كعب القرطي وقتادة وعطية وزيد بن أسلم وطاوس اليماني5.

الطبقة الثالثة تلامذة الطبقة الثانية، كربيع بن انس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وأبو صالح الكلبي ونظرائهم6.

كان من منهج التابعين في التفسير أنهم ينقلونه أحيانا بصورة أحاديث عن الرسول الكريم أو الصحابة، وأحيانا ينقلونه بشكل نظريات خاصة بلا اسنادها إلى أحد، فعامل متأخر والمفسرين مع هذه الأقوال معاملة الأحاديث النبوية واعتبروها أحاديث موقوفة7.

ويطلق على الطبقتين الأخيرتين لفظة “قدماء المفسرين”.

الطبقة الرابعة أوائل المؤلفين في علم التفسير، كسفيان ابن عيينة ووكيع بن الجراح وشعبة بن الحجاج وعبد بن حميد وغيرهم. ومن هذه الطبقة أيضا ابن جرير الطبري صاحب التفسير المشهور8.

ومنهج هذه الطبقة من المفسرين كان نقل أقوال الصحابة والتابعين بشكل أحاديث في مؤلفاتهم التفسيرية بدون ذكر آرائهم الخاصة. الا أن ابن جرير في تفسيره قد يبدي رأيه في ترجيح بعض الأحاديث على بعضها وكيفية الجمع بينها. ومن هذه الطبقة تبدأ طبقات المفسرين المتأخرين.

الطبقة الخامسة المفسرون الذين نقلوا الأحاديث في تفاسيرهم بحذف الأسانيد واكتفوا بنقل الأقوال والآراء.

قال السيوطي: فدخل من هنا الدخيل والتبس الصحيح بالعليل9.

الا أن المتدبر في الأحاديث المسندة يرى أيضا كثيرا من الوضع والدس، ويشاهد الأقوال المتناقضة تنسب إلى صحابي واحد، ويقرأ قصصا وحكايات يقطع بعدم صحتها، ويمر على أحاديث في أسباب النزول والناسخ والمنسوخ لاتتفق مع سياق الآيات. ومن هنا نقل ان الامام أحمد بن حنبل قال: ثلاثة لا أصل لها المغازي والملاحم وأحاديث التفسير. ونقل عن الامام الشافعي أن الثابت من الأحاديث المروية عن ابن عباس مائة حديث فقط.

الطبقة السادسة المفسرون الذين كتبوا التفسير بعد ظهور العلوم المختلفة ونضجها، فكتب كل منهم حسب اختصاصه وفي العلم الذي أتقنه: فالنحوي أدرج المباحث النحوية كالزجاج والواحدي وأبي حيان10، والاديب أورد المباحث البلاغية كالزمخشري في كشافه11، والمتكلم اهتم بالمباحث الكلامية كالفخر الرازي في تفسيره الكبير12 والصوفي غاص في المباحث الصوفية كابن العربي وعبد الرزاق الكاشاني في تفسيريهما13، والاخباري ملأ كتابه بالأحاديث كالثعلبي في تفسيره14، والفقيه جاء بالمسائل الفقهية كالقرطبي في تفسيره15. وقد خلط جماعة آخرون في تفسيرهم بين العلوم المختلفة كما نشاهده في تفسير روح المعاني16 وروح البيان17 وتفسير النيسابوري18.

والخدمة التي قدمتها هذه الطبقة إلى علم التفسير هي اخراجه من جموده واخضاعه للدرس والبحث، ولكن الانصاف يقتضي القول بأن كثيرا من المباحث التي كتبها هؤلاء حملت على القرآن حملا ولا تدل عليها الآيات.

أسلوب مفسري الشيعة وطبقاتهم
الطبقات التي ذكرناها هي طبقات المفسرين من السنة ورأينا أن لهم منهجا خاصا في التفسير ساروا على ضوئه من حين نشأته، فجلعوه أحاديث نبوية وأقوال للصحابة والتابعين ولم يجيزوا اعمال النظر فيها لأنه يكون من قبيل الاجتهاد مقابل النص. ولكن لما ظهر التناقض والتضارب والدس والوضع فيها بدأت الطبقة السادسة تعمل رايها فيها وتجتهد.

أما المنهج الذي اتخذته الشيعة في تفسير القرآن الكريم فيختلف مع منهج السنة، ولذا يختلف تقسيم طبقاتهم مع الطبقات المذكورة.

تعتقد الشيعة بنص من القرآن الكريم حجية أقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التفسير، وترى أن الصحابة والتابعين كبقية المسلمين لاحجية في أقوالهم الا ماثبت أنه حديث نبوي. وقد ثبت بطرق متواترة في حديث الثقلين أن أقوال العترة الطاهرة من أهل بيته عليهم السلام هي تالية لأقوال الرسول، فهي حجة أيضا. ومن هنا أخذت الشيعة في التفسير بما أثر عن النبي وأهل بيته عليهم السلام، فكانت طبقات المفسرين منهم كما يلي:

الطبقة الأولى: الذين رووا التفسير عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وائمة اهل البيت عليهم السلام وأدرجوا الأحاديث في مؤلفاتهم المتفرقة، كزرارة ومحمد بن مسلم ومعروف وجرير واشباههم19.

الطبقة الثانية أوائل المؤلفين في التفسير، كفرات بن ابراهيم الكوفي وابي حمزة الثمالي والعياشي وعلي بن ابراهيم القمي والنعماني20.

وطريقة هؤلاء في تفاسيرهم تشبه طريقة الطبقة الرابعة من مفسري أهل السنة، فقد رووا الأحايث المأثورة عن الطبقة الأولى وأدرجوها مسندة في مؤلفاتهم ولم يبدوا آراءهم الخاصة في الموضوع.

ومن الواضح أن الزمن الذي كان يمكن الأخذ فيه عن الأئمة عليهم السلام كان طويلا بلغ نحوا من ثلاثمائة سنة، فكان من الطبيعي أن لا يضبط الترتيب الزمني لهاتين الطبقتين بصورة دقيقة، بل كانتا متداخلتين من الصعوبة بمكان التفريق الدقيق بينهما.

وقد قل عند أوائل مفسري الشيعة نقل أحاديث التفسير بشكل روايات مرسلة في تفاسيرهم، وكنموذج لنقل الأحاديث مروية بدون أسانيد نلفت الأنظار إلى تفسير العياشي الذي حذف بعض تلامذته اسانيده اختصارا، فاشتهرت نسخة التلميذ المختصرة وحلت محل نسخة الأصل.

الطبقة الثالثة اصحاب العلوم المختلفة، كالشريف الرضي في تفسيره الأدبي والشيخ الطوسي في تفسيره الكلامي المسمى بالتبيان والمولى صدر الدين الشيرازي في تفسيره الفلسفي والميبدي الكونابادي في تفسيره الصوفي والشيخ عبد علي الحويزي والسيد هاشم البحراني والفيض الكاشاني في تفاسيرهم نور الثقلين والبرهان والصافي21.

وهناك جماعة جمعوا في تفسيرهم بين العلوم المختلفة، ومنهم الشيخ الطبرسي في تفسيره “مجمع البيان” الذي يبحث فيه عن اللغة والنحو والقراءة والكلام والحديث وغيرها22.

*القران في الاسلام، دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع، ط3، ص52-62.


1- النحل:44.
2- الجمعة:2.
3- آخر كتاب الاتقان، طبع القاهرة سنة1370هـ.
4- الاتقان ص120 133.
5- مجاهد، مفسر مشهور، توفي سنة100 او سنة 103 (تهذيب الاسماء للنووي). سعيد بن جبير، مفسر معروف، تلميذ ابن عباس، قتله الحجاج سنة 94 (التهذيب). عكرمة، مولى ابن عباس وتلميذه وتلميذ سعيد بن جبير، توفي سنة104 (التهذيب). ضحاك، من تلامذة عكرمة (لسان الميزان). الحسن البصري، زاهد ومفسر معروف، توفي سنة 110 (التهذيب). عطاء بن أبي رباح، فقيه ومفسر مشهور، من تلامذة ابن عباس، توفي سنة115 (التهذيب). عطاء بن أبي مسلم، من أكابر التابعين، ومن تلامذة ابن جبير وعكرمة، توفي سنة 133 (التهذيب). أبو العالية، من أئمة التفسير وأكابر التابعين، كان في المائة الأولى من الهجرة (التهذيب). محمد بن كعب القرطي، مفسر معروف، وهو من أسرة يهودية من بني قريظة، كان في المائة الأولى من الهجرة. قتادة، أعمى، كان من أكابر المفسرين، وهو من تلامذة الحسن البصري وعكرمة، توفي سنة 117 (التهذيب). عطية، ينقل عن ابن عباس (لسان الميزان). زيد بن أسلم، مولى عمر بن الخطاب، فقيه ومفسر، توفي سنة 136 (التهذيب). طاوس اليماني، من أعلام عصره، وهو تلميذ ابن عباس، توفي سنة106 (التهذيب).
6- عبد الرحمن بن زيد، يعد من علماء التفسير. أبو صالح الكلبي، النسابة المفسر، وهو من أعلام القرن الثاني.
7- الأحاديث الموقوفة هي التي لم يذكر فيها المروي عنه.
8- سفيان بن عيينة، مكي من طبقة التابعين الثانية، وهو من علماء التفسير توفي سنة 198 (التهذيب). وكيع بن الجراح، كوفي من طبقة التابعين الثانية، ومن مشاهير المفسرين توفي سنة 197 (التهذيب).
شعبة بن الحجاج البصري، من طبقة التابعين الثانية، وهو من مشاهير المفسرين، توفي سنة 160 (التهذيب).عبد بن حميد، صاحب تفسير، من طبقة التابعين الثانية، كان في القرن الثاني من الهجرة. ابن جرير الطبري، محمد بن جرير بن يزيد، من مشاهير علماء السنة، توفي سنة310 (لسان الميزان).
9- الاتقان3/190.
10- الزجاج، من علماء النحو، توفي سنة310 (ريحانة الأدب).الواحدي، نحوي مفسر، توفي سنة468 (الريحانة).أبو حيان الأندلسي، نحوي مفسر قارىء، توفي في مصر سنة745 (الريحانة).
11- الزمخشري، من مشاهير علماء الأدب، مؤلف تفسير الكشاف، توفي سنة538 (كشف الظنون).
12- الامام فخر الدين الرازي، متكلم مفسر مشهور، صاحب تفسير مفاتيح الغيب، توفي سنة606 (كشف الظنون).
13- عبد الرزاق الكاشاني، من مشاهير علماء الصوفية في القرن الثامن الهجري(ريحانة الأدب).
14- أحمد بن محمد بن ابراهيم الثعلبي، صاحب التفسير المشهور، توفي سنة 426 أو 427 (الريحانة).
15- محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي، توفي سنة668 (الريحانة).
16- تأليف الشيخ أسماعيل حقي، توفي سنة1137 (ذيل كشف الظنون).
17- تأليف شهاب الدين محمود الآلوسي البغدادي، توفي سنة1270 (ذيل كشف الظنون).
18- غرائب القرآن، تأليف نظام الدين حسن القمي النيسابوري، توفي سنة728 (ذيل كشف الظنون).
19- زرارة بن أعين ومحمد بن مسلم من فقهاء الشيعة وخواص أصحاب الامامين الباقر والصادق عليهما السلام.معروف بن خربوذ وجرير من خواص أصحاب الامام الصادق عليه الصلاة والسلام.
20- فرات بن ابراهيم الكوفي، صاحب التفسير المشهور، من مشائخ علي بن ابراهيم القمي (ريحانة الأدب).أبو حمزة الثمالي، من فقهاء الشيعة وخواص أصحاب الامام السجاد والباقر عليهما السلام (الريحانة).العياشي، محمد بن مسعود الكوفي السمرقندي، من أعيان علماء الامامية في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري (الريحانة). علي بن ابراهيم القمي، من مشائخ الحديث الشيعي في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجري.النعماني، محمد بن ابراهيم، من أعيان علماء الامامية، وهو تلميذ ثقة الاسلام الكليني، كان في أوائل القرن الرابع الهجري (الريحانة).
21- الشريف الرضي، محمد بن الحسين الموسوي، من أجلاء فقهاء الامامية أعلم أهل زمانه في الشعر والأدب، ومن تآليفه كتاب “نهج البلاغة” توفي سنة404 أو 406 (ريحانة الأدب).شيخ الطائفة، محمد بن الحسن الطوسي، من أعلام علماء الامامية، من تأليفه “التهذيب” و”الاستبصار” اللذين هما أصلان من الأصول الأربعة الحديثية عند الشيعة، توفي سنة460 (الريحانة).صدر المتأهلين، محمد بن ابراهيم الشيرازي، الفيلسوف المشهور، مؤلف كتاب “أسرار الآيات” و”مجموعة تفاسير”، توفي سنة1050 (روضات الجنات).المبيدي، السيد هاشم البحراني، صاحب تفسير البرهان” في أربعة أجزاء كبار توفي سنة1107 (الريحانة).الفيض الكاشاني، المولى محمد محسن بن المرتضى، مؤلف كتاب “الصافي” و”الأصفي”، توفي سنة 1091 (الريحانة).الشيخ عبد علي الحويزي الشيرازي، مؤلف كتاب نور الثقلين” في خمسة أجزاء، توفي سنة1112 (الريحانة).
22- أمين الاسلام، الفضل بن الحسن الطبرسي، من أعيان علماء الامامية صاحب “مجمع البيان” في عشرة أجزاء، توفي سنة548 (الريحانة).

شارك هذه:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *